مقال جدلي: هل اليقين في نتائج العلوم قد بلغ درجة اليقين في الرياضيات؟
مقالات فلسفية 3 ثانوي للشعب العلمية بكالوريا 2020
الإشكالية الثالثة : فلسفة العلوم
عنوان المقالة : هل اليقين في نتائج العلوم قد بلغ درجة اليقين في الرياضيات
الفلسفة – السنة الثالثة ثانوي للشعب التالية :
علوم تجريبية – رياضيات – تقني رياضي – تسيير و اقتصاد – لغات اجنبية
طرح المشكلة :
“إن العلوم تتسابق لاستعمال الرياضيات للتعبير عن نفسها ولغزو المجهول” _ بوان كاري
من هذا القول الفلسفي يتجلى لنا إن للرياضيات قيمة تجعل العلوم تتسابق لاقتنائها، و استخدامها كلغة، للخروج من الوصف القبيح للظاهرة إلى الوصف الدقيق و ذلك بالرموز و الأرقام، و العلاقات إلى درجة أن أصبحت الرياضيات موضة العلوم. و قيمة الرياضيات تتجلى في اليقين ،فما هو اليقين في الرياضيات؟ والى أي حد وفقت العلوم على اختلافها في توظيف هذا اليقين ؟
محاولة حل المشكلة: لقد أسهمت الرياضيات إسهاما كبيرا في الارتقاء بالعلوم من المجسد إلى المجرد حيث تخرج الظاهرة من الوصف الكيفي إلى علاقات كمية ، تربط المتغيرات بالثوابت ، و تنسجها في قالب يرضي الجميع، ففرق كبير بين إن نعبر عن الصوت بالتواتر (ن) و طول الموجة (ط) و الذبذبات. و يختلف الوضع اختلافا شديدا عندما نتحدث عن سقوط الأجسام كأسباب و مسببات ، وان نتحدث بقانون غاليلي ع=½ج ز
وقد غزت الرياضيات بيقينها علوما كثيرا، ففي علم الفلك اكتشف العالم لوفيري بواسطة حسابات رياضية بحتة كوكب نبتون و كان موقنا من ذلك.إذ انه لاحظ حركة غير طبيعية على كوكب المشتري و أحصى جميع القوى المؤثرة عليه من مختلف الكواكب المعروفة إلى إن توصل إلى وجود مؤثر غير الكواكب المحصاة و بفضل حسابات رياضية حدد موقعه و مداره و سرعته و عرض بحوثه على وكالة أرصاد ألمانية فكانت النتيجة اكتشاف كوكب نبتون .
وفي البيولوجيا أصبح استخدام الرياضيات قصد اليقين شاسعا فنجد حساب التركيز داخل وخارج الخلايا و إنشاء المنحنيات البيانية و استخدام الهندسة التحليلية لديكارت و التي أثرت الحتمية البيولوجية .
كما استخدمت الإعداد المركبة ل”بومبيلي” في الكهرباء ما أعطاها يقينا زائدا حيث تكفي معرفة شروط ابتدائية لتحديد الشدة أو فرق الكمون كما تساعد في التعبير عن احد التغيرات قصد الدراسة .
وحسابات “هويجنز”استعملها “آينشتاين ” في حساب مستويات الطاقة فأصبحت الرياضيات بيقينها تنقل إلى باقي العلوم يقينا و حتمية .
يقول برغسون:” إن المعرفة العلمية وليدة الرياضيات وما كان العلم الحديث لينشأ لولا إن اصطاد الجبر العلوم ووضعها في شباكه ”
حتى إن العلوم الإنسانية أصبحت تعبر عن نتائجها و إحصاءاتها بالاحتمال و المنحنيات البيانية و كذلك العلوم النفسية فهذا فرويد يعالج مرض الاكتئاب بحسابات رياضية و حتميات .وكذلك” واطسون “ودراسته
“الفعل و رد الفعل”
*إلا أن اليقين في المفاهيم المجسدة، لم يبلغ حتما ما بلغه اليقين في المفاهيم المجردة ـ الرياضيات ـ
فبالنسبة للرياضي ، هو من يقترح الفرضيات من تعريفات ، بديهيات أو مصادرات ” المصادرة هي تعريف متنكر “ـ بوان كاري ـ و يبني على أساس هذه الفرضيات برهانه ، كما يقول بوان كاري ” إن الرياضيات تنفرد وحدها بالتعاريف ، ولا يمكن أبدا أن تخطئ “( عكس ما يقول بوان كاري يقول برتراند راسل :”ـ إن الرياضيات هي العلم الذي لا يعرف عما يتحدث ، وما إذ كان ما يتحدث عنه صحيحا أو خاطئاـ ” و شرط البرهان الصحيح في الرياضيات هو عدم تناقص العقل مع نفسه أي مع مسلماته الأولى ، كما يقول الفيلسوف “بولير “: إن الرياضي يعرف ما يقول من حديث ، لأنه هو الذي وضع مسلماته الأولى و اشترط على نفسه ألا يتناقض معها ، وهو ليس مطالب باختيار مسلماته بقدر ماهو مطالب ببقائه وفيا لها” . بينما العالم المتعامل مع الواقع و الطبيعة ، فالواقع هو الذي يفرض عليه مبادئه الأولى ، وهو مقيد بهذه المبادئ ، وخاضع للطبيعة و يشترط لكي يكون بناؤه صحيحا عدم مطابقة العقل مع الواقع،أي ألا يفسر إلا بما يمليه عليه الواقع ، و لأن الواقع غامض ، ولا يستطيع التعامل معه بحرية ، فإنه يتعذر اكتساب اليقين المكتسب في الرياضيات
ففي العلوم الفيزيائية :
بعد أن نزل العلماء ، و الفيزيائيون إلى الذرة ، ومنهم العالم هيزنبرغ لا حظوا أن : كمية حركة الجسم وحدها لا يمكن أن تعين سرعته الابتدائية ، ولا موقعه في السحابة الإلكترونية ، فأصبح الفيزيائيون يتحدثون بلغة المجالات لا الأرقام المحددة و يصفون الإلكترون باحتمالات فاحتمال كونه في مجال هو أكبر من احتمال كونه في مجال آخر .فأين هو اليقين في النتائج العلمية من يقين الرياضيات المطلقة التي تعطينا نتائج لا جدال فيها، و لا تحتاج إلى ثقتنا.
*و إذا انتهينا للنظريات الرياضية ، نجد حسب علاقات ” فيتاغورس ” الأعداد الجذرية . و هي مفاهيم مطلقة ، مقبولة في الأذهان ، لكن إن أردنا مثلا تحديدا للعدد ∏في الفيزياء ، فنلجأ إلى التقريب .
و لهذا يقول عالم الذرة و الفيزياء الحديثة الألماني ” ألبرت آنشطاين ” <<إن الرياضيات بقدر ما تكون مرتبطة بالواقع ، بقدر ما تكون غير يقينية >>و لو كانت النتائج في الفيزياء يقينية ، لما لجأ الفيزيائيون إلى قوانين التقريب مثل ( 1+ع)ن =1+ن ع، و لما قال ” اللورد كالفن ” <<إنك لا تستطيع السيطرة على الظاهرة ، مالم تتمكن من التعبير عنها بالأرقام ، و حصرها في مجالات >>و ذلك بعد الخسارة الكبرى في بورصة الأمريكية ، عندما لم يحتاطوا لترك فراغات ، بين أجهزة السفن ، و التي أفسدت بعضها بعد تمددها فظهرت الإرتيابات .
وفي مجال العلوم الطبيعية :
ـ تمكن العالمان : واطسن و كريك بعد اعتماد الاستقراء الناقص على جزئيةadn، من استنتاج تساوي القواعد اللآزرتية)( ta)(gcو لكن من يضمن لنا أن جميع adnالكائنات الحية هو نفسه في هذا العدد ،إذن حدود اليقين في البيولوجيا هو الثقة ، و التعود
ـ و تتدخل الفردية البيولوجية لإعاقة اليقين العلمي ، و تأخيره عن اليقين الرياضي فيتعذر تطبيق نفس القوانين ، أو التنبؤ بنفس النتائج فقد يتسبب حقن “البنسلين ” لشخص في وفاته ، و يتسبب حقن نفس المركب لشخص آخر في شفائه ، فأين هو التنبؤ بالنتائج و تأكيدها في ميدان العلوم البيولوجية؟ .
ـ وقد أكد الآليون أنّ ما يحدث في المعدة من تفاعلات هو نفسه ما يحدث في المخبر، و لكن بصورة أعقد، ما يجعل السيطرة على الظواهر التي تحدث في المعدة أمرا شبه مستحيل. كالمنع و الإجاد، و التنبؤ و لهذا يقول مالبرانش”إنّ الطبيعة ليست مجردة أبدا”.
و في مجال العلوم النفسية :تتدخل فكرتا الزمان و المكان ، و اللتان لا تدركان إلاّ بالحدس الحسي،و يرى الفيلسوف الألماني “كانط” أنهما مطلقان.
و مشكلة الصيرورة كذلك تعيق اليقين في مجال العلوم النفسية و الاجتماعية . فيقول برغسون:”إنّ الصيرورة لا تقاس ،ولا يمكن أن تدرك إلا عن طريق الحدس فمن يضمن لنا أننا نعيش حياة ثابتة دائمة ،مضطردة كما يقول برتراند راسل “إنّ التجربة وحدها لا تكفي و لابد للباحث إما أن يسلم بمبدأ الاستقراء أو أن يبحث عبثا عن مبررات حكمه ،إن الجواب عن السؤال :هل المستقبل القادم يشبه المستقبلات الماضية…لا يمكن بالاعتماد على المستقبل الماضي.”.
فحدود اليقين في العلوم مالثقة،ي الحتميات و الاطراد،و مبادئ ميتافيزيقية،كالإيمان بديمومة القوانين، و الثقة في القوانين و التي تنتج عن الحتمية مع التنبؤ ،فقانون دافعة أرخميدس ليس هو الذي يجعل الناس يركبون الطائرة أو الباخرة و هم مطمئنين ،إنما الثقة في دافعة أرخميدس ، و في العلم كافة هي التي جعلت اليقين يتسرب إلى جموع الناس.إنهم يطبقون مبدأ كلود برنار الذي يقول : “يجب أن نثق في العلم ،أي في الحتميات تلك العلاقة الثابتة و المطلقة بين الأشياء.”فأساس اليقين في العلوم هو الثقة ،بينما أساس اليقين في الرياضيات فهو صحة البرهان الرياضي ،و اليقين الرياضي يبقى أقوى من اليقين في العلوم .
و لهذا نجد بأنّ نظريات علمية كثيرة سادت و لمدة طويلة ،ثم بطل يقينها بتطور العلم كنظرية أن الأرض مسطحة ،و التي أثبت غاليلو بأنها كروية ،و اليونان الذين قالوا بأنّ :الماء بسيط ثم جاء “لافوازيه” ليبطل هذه النظرية باكتشافه أن الماء مكون من عنصري الهيدروجين و الأكسجين. بينما نظرية “إقليدس ” (مجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين) بقيت راسخة،رغم ظهور هندسة “لوباتشيفسكي ” الروسي و “ريمان” الألماني ، لأنّ إقليدس قد وضع فرضيات أو تعريفات مسبقة ، و حدد مفاهيمه مسبقا ، كالسطح المستوي ، و معنى الزاوية ،و معنى المثلث،و بنى برهانه مستندا على ما افترضه ،محترما النسق الرياضي .فكانت هندسته مطلقة صحيحة ،و ستبقى صحيحة يقينا ،لأنّ الرياضيات علم فرضي استنتاجي .بينما باقي العلوم، فهي تخضع للطبيعة، و أي تمرد عليها، و استكبار أو محاولة الفرض فإنها ستعود بالسلب على العالم.و هذا ما حدث في عهد أرسطو الذي أراد أن يعقلن الطبيعة، فكان كما يقول أحد الفلاسفة:”إنّ الإنسان كائن ذو كبرياء.”وعلى العالم لكي تكون نتائجه يقينية أن يفعل مثلما فعل نيوتن عندما استنتج قانون الجاذبية خاضعا لشروط موضوعية .و قد استهزئ به فردّ قائلا: “أنا لا أفترض الفروض”
حل المشكلة: يقين الرياضيات في البره لأنها: من يقين العلوم، و لو أنها ترتقي لتبلغ يقين الرياضيات، فأصبحت الرياضيات مثالا تسير على حذوه باقي العلوم.و برهان الرياضيات أقوىلأنها:تعتمد على التعريفات و شرط البرهان الصحيح هو الخضوع للنسق، و عدم مناقضة المسلمات الأولى.فهي علم فرضي استنتاجيبينما العلوم، تخضع للحتميات، الطبيعية و الاجتماعية و النفسية، و شرطها عدم مناقضة العقل للواقع.فالعالم يتنبؤ حسب الحتميات ،أما الرياضي فيجزم بنتائجه المطلقة و ذلك ما يظهر في قولنا:” ستمطر على10:00″ و بين قولنا”1+1=2″.